الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
إن الشاردين عن صراط الله سبحانه وتعالى والمبتعدين عن أوامره والموغلين في المعاصي الآثام ينقسمون إلى فريقين اثنين.
أما الفريق الأول منهما فمغلوب على أمره، يكره المعصية ولكن نفسه تدفعه إليها، يكره الانحراف ولكن ضعفه يتغلب عليه، ولربما وقع تحت ضعف كينونته النفسية فارتكب كثيراً من الموبقات وارتكب كثيراً من المحرمات ولكنه في كل الأحوال يعلم أنه شارد عن صراط الله ومتألمٌ لعدم استجابته لأوامر الله وكأن لسان حاله يقول: اللهم إني ما عصيتك حين عصيتك استكباراً على حكمك ولكنه الضعف الذي ركبته في كياني.
هذا الفريق من الناس مآله – يا عباد الله الصفح والمغفرة. هذا الفريق هم الذي خاطبهم الله سبحانه بقوله:
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر : 53]
مآل هذا الفريق من الناس مهما ابتعد عن صراط الله سبحانه وتعالى ومهما أوغل في المعاصي والآثام مآله أن يجذبه الله عز وجل إليه، وكأنه يقول: أما آنَتْ رجعتك إلي! أما آن أن تعلم أن مصيرك إلي! يعيده الله عز وجل بلطف منه وإكرام وإحسان إلى صراطه وهديه.
وما أظن – يا عباد الله – أن في هذا الفريق الذي وصفت حاله لكم ما أظن أن فيه واحداً انتهى من حياته الدنيوية هذه ورحل إلى الله وهو غير مغفور له. هؤلاء هم الذين يخاطبهم الله بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
ولكم سمعنا في العصور المتصرمة ورأينا في حياتنا المعاصرة أناساً ساروا أشواطاً كثيرةً في حياتهم تائهين عن أوامر الله عز وجل، شاردين يتبعون أهواءهم، يستجيبون لرعوناتهم وتنظر فجأة وإذا هو بعد حين قد أصبح من خيرة عباد الله التائبين، من أفضل عباد الله الملتزمين لأوامره والمستقيمين على صراطه، تلك هي سنة رب العالمين وإنه لمظهر عظيم من مظاهر لطف الله.
دعوني أذكِّرَكُم بنماذج من هذا الفريق.
بشر الحافي أمير من أمراء البصرة كان مضرب المثل في اللهو والقصف وكانت داره تساهر الليل إلى لمعة الفجر واللهو والغناء والقصف لا يهدأ كل ذلك من داره.
في ليلة من الليالي طرق الباب طارق، خرجت جارية من جواري القصر، فتحت الباب وإذا بها أمام رجل رث الهيئة يثير مظهره الاشمئزاز، سألها قائلاً أصاحب هذه الدار حرٌّ أم عبد فاستضحكت وصفقت الباب في وجهه وقالت مجنون لا يعلم أمير البصرة يسأل أهو حرٌّ أم عبد. عادت إلى سيدها وهي تضحك، سألها ما الخبر، قالت: يا سيدي الأمر كيت وكيت. قفز بشر إلى الباب والتفت يمنة ويسرة ووجد الرجل الذي وصفته الجارية على بعد فشد نفسه إليه حافياً حتى أدركه، أمسك بيده وقال له: أنت طرقت الباب؟ قال: نعم. قال: ماذا قلت؟ قال: لا شيء، سمعت هذا القصف واللهو فسألت صاحب هذه الدار حرٌّ أم عبد، قالت بل هو حرٌّ قلت: نعم نعم هذا ليس شأن العبيد. دخلت الهداية في تلك اللحظة إلى قلب بشر، أمسك بيده وقال: يا هذا أشهدك أمام الله أني عبد ولسوف أبقى عبداً ولسوف يلقاني الله عبداً. اصطلح مع الله حافياً وبقي حافياً.
في لمحة واحد كان الصلح لماذا؟ لأن انحراف بشر لم يكن عن استكبار، لم يكن عن تخطيط وتعمدٍ وسبق إصرار، كان استجابة لضعفه، كان استجابة لرعوناته.
الفضيل بن عياض كان مضرب المثل في السوء، كان شأنه اللصوصية، كان لِصَّاً، كان قاطع طريق، وكانت له خليلة يختلف إليها بين الحين والآخر ولكنه لم يكن يوغل في هذه المعاصي استكباراً على الله بل لعله كان يعلم ويتألم.
ذات ليلة تَسَوَّرَ جداراً، علم أن هنالك فرصة لاستلاب شيء من المال من الدار، تسور الجدار بعد هزيع طويل من الليل والناس نيام، فلما أراد أن ينقلب إلى داخل الدار سمع صوتاً يقطع صمت الليل يقرأ هذه الآية:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد : 16].
دخلت أسرار هذه الآية في قلب الفضيل وصاح وهو يقف فوق ذلك الجدار قائلاً: بلى يا ربي لقد آن، لقد آن وتحول عائداً، اغتسل واصطلح مع الله.
وكم وكم في التاريخ من أمثال الفضيل وأمثال بشر وأمثال عبد الله بن المبارك، وكم في الناس المعاصرين اليوم من أمثال هؤلاء الذين ذكرت لكم أخباركم. لكن من هم؟ إنهم الذين دفعتهم رعوناتهم النفسية، أهواؤهم، دفعهم ضعفهم، دفعتهم غرائزهم البشرية إلى ارتكاب ما ارتكبوا ولم يستطيعوا أن يتغلبوا على أهوائهم فلحقتهم رحمة الله عز وجل وأحاط بهم لطفه.
أما الفريق الثاني ففريق يخطط للمعصية ويرتكبها متعمداً بسبق إصرار، يرتكب المعصية مستخفاً بمن حرمها، مستهيناً بمن شرع الشرائع والأحكام.
هذا الفريق أيها الإخوة يختلف شأنه اختلافاً كبيراً عن الفريق الأول.
إن أردت أن تُذَكِّرَ لم يقل لك أنت محق ولكني ضعيف ادع الله لي وإنما يقول: أنا مؤمن بهذا الذي أسير عليه، أنا متحرر من الماضي العتيق، متجه إلى الحداثة، متجه إلى الحضارة، أنا لا يملك أحد من الناس أمري، أفعل ما شئت. يرتكب ولكنه يرتكب ذلك مبرراً، يعصي الله عز وجل ولكنه يعصيه مستخفاً بأوامر الله عز وجل مستهيناً بأحكامه. هؤلاء هم الذين عناهم الباري سبحانه وتعالى بقوله:
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق : 15-17].
إنهم هم المعنيون بقول الله سبحانه وتعالى:
{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران : 54].
إنهم هم المعنيون بقول الله عز وجل:
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر : 45].
أرأيتم إلى كتاب الله كيف تحدث عن الفريق الأول طمأنه بأن المعاصي بالنسبة له لن تحجزه عن رحمة الله، ومتى كانت معاصي الإنسان سبباً لشقائه يوم الديَّان.
أما الفريق الثاني، هذا الفريق الذي يرتكب المعصية مستهيناً بها، هذا الذي يرتكب المعصية مستخفاً بأمر الله، مستخفاً بكتاب الله عز وجل، يخطط للمعصية، يخطط لها في حق نفسه ولربما في حق غيره أيضاً، لا يقبل نصح الناصحين، لا يقبل تذكرة المذكِّرين، هؤلاء هم الذين يعنيهم البيان الإلهي في هذا الذي ذكرت، وهنالك آيات أخرى تذيب تزلزل الفؤاد:
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}
هؤلاء لن تصادفهم رحمة الله لأنهم هاربون منها وإنما يصدق عليهم قول الله عز وجل:
{لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة : 114].
الخزي عدم الوصول إلى المطلوب. كم وكم من أناس حقدوا على دين الله وشرعه فخططوا للقضاء عليه، قُضِيَ عليهم قبل أن يُقْضَى عليه، والتاريخ أكبر شاهد على ذلك يا عباد الله.
نحن الآن من أي الفريقين؟
أرجو وأسأل الله عز وجل ألا نكون من هؤلاء الشاردين الذين وقعوا ضحية ضعفهم، وقعوا ضحية رعوناتهم وأهوائهم وألا نكون من الفريق المستكبر على الله سبحانه وتعالى، أرجوا أن نكون ممن قال الله عنهم:
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 102].
نحن لسنا مبرئين من المعاصي، كيف وقد قال رسول الله (:
{كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون}.
نحن نخطئ في الليل والنهار ولكن ربنا غفور، وإني لأسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الفريق الذي يظل يجاهد نفسه ليسمو بنفسه إلى صعيد الالتزام بأوامر الله، إلى صعيد التحلي بشرع الله سبحانه وتعالى. نحاول أن نسمو بأنفسنا إلى هذا الصعيد ونحن نعلم أن لا حول لنا ولا قوة، نخاطب الله قائلين: اللهم إنا تبرأنا إليك من أوهام حولنا وقوتنا فسدد اللهم خطانا، يَسِّرْ اللهم سبيلنا إلى السير على صراطك والالتزام بأوامرك.
ولا تزال بقية من عباد الله الصالحين سائرين على النهج القويم لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون. أقول قولي هذا وأستغفر الله.
Tiada ulasan:
Catat Ulasan